الأنسنة في المدن سريعة النمو والتوسع العمراني: بين التحدي والفرصة – الرياض نموذجاً
بقلم: د.عبدالمحسن الشبلي – متخصص في التخطيط الحضري والاقليمي
تشهد العديد من المدن الكبرى في العالم، وخاصة في منطقة الخليج، نموًا عمرانيًا متسارعًا تقوده عوامل اقتصادية، ديموغرافية، وتقنية. هذا التوسع العمراني – وإن كان مؤشرًا على التقدم والتنمية – يطرح تحديًا محوريًا يتمثل في كيفية الحفاظ على الطابع الإنساني للمدينة. إن الإنسان ليس مجرد مستفيد من البيئة الحضرية، بل هو جوهرها، ولذا فإن مفهوم “أنسنة المدينة” يبرز اليوم كضرورة وليس ترفًا. فالسؤال الذي يجب أن يُطرح في هذا السياق هو: كيف نوازن بين تسارع النمو الحضري ومتطلبات الأنسنة؟ وكيف يمكن تحقيق مدينة تنمو عمرانياً دون أن تفقد روحها الإنسانية؟ مدينة الرياض، باعتبارها من احد أسرع مدن العالم نموًا، تُعد نموذجًا مثاليًا لتأمل هذا التحدي ومحاولة فهم أبعاده.
الأنسنة في التخطيط الحضري لا تعني فقط إضافة مساحات خضراء أو أرصفة عريضة، بل تتجاوز ذلك لتكون رؤية شاملة تضع الإنسان في قلب السياسات الحضرية، من حيث احتياجاته النفسية، والاجتماعية، والحركية، بل وحتى المناخية. فمدن الأنسنة هي تلك التي تُبنى على مقياس الإنسان، وليست على مقياس السيارة أو الاستثمار العقاري. ولذلك، يصبح من الضروري أن تكون الشوارع قابلة للمشي، الفراغات العامة جاذبة للتفاعل، وأن تكون المدينة قادرة على احتضان سكانها بطريقة توازن بين الكثافة العمرانية وبين الراحة والخصوصية.
لكن في ظل النمو السريع، تواجه المدن تحديات كبيرة في تحقيق هذا التوازن. الامتداد الأفقي، أو ما يُعرف بـ”الزحف العمراني”، يُضعف من الترابط المجتمعي ويزيد الاعتماد على السيارة، مما يُقلل من فرص التفاعل الإنساني داخل الأحياء. كذلك فإن التخطيط التقليدي الذي يفصل الاستعمالات (سكني، تجاري، تعليمي) يؤدي إلى تفكك الحياة اليومية، ويجعل الوصول للخدمات الأساسية يتطلب تنقلاً مرهقًا. والأسوأ من ذلك، أن الفراغات العامة في بعض الأحياء الجديدة تُنشأ كمساحات صماء دون روح أو غرض اجتماعي، مما يجعلها مهجورة وعاجزة عن خلق حياة حضرية نشطة.
في هذا السياق، بدأت مدينة الرياض في السنوات الأخيرة بمراجعة شاملة لسياساتها الحضرية من خلال مشاريع ومبادرات تستهدف “أنسنة المدينة”. وقد جاءت جهود أنسنة مدينة الرياض بهدف تحويل المدينة إلى بيئة أكثر ملاءمة لحياة الإنسان اليومية. حيث تركز على تهيئة الشوارع لتكون صديقة للمشاة والدراجات، وتحسين جودة الفضاءات العامة، وزيادة المساحات الخضراء، وتفعيل الاستخدام المختلط للأراضي، وهو ما يُساهم في خلق أحياء متكاملة تعزز التفاعل الاجتماعي، وتُشجع السكان على التنقل النشط.
ومن بين المشاريع الداعمة لهذه الجهود، يبرز “مشروع الرياض الخضراء” الذي يستهدف زراعة الملايين من الأشجار، ليس فقط لتحسين المشهد البصري، بل لتعديل المناخ المحلي وتوفير بيئة ظل طبيعية تشجع المشاة على استخدام الفراغات العامة. كما أن “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام” الذي يشمل شبكة المترو والحافلات، يُعتبر نقلة نوعية في تقليل الاعتماد على السيارات، ويُسهم في جعل المدينة أكثر ترابطًا وإنسانية. هذه المشاريع وغيرها تُعبر عن فهم متقدم لفكرة أن السكن ليس فقط مبنى، بل هو تجربة معيشية متكاملة تبدأ من لحظة خروج الإنسان من باب منزله، ولا تنتهي إلا بعودته إليه.
ومع ذلك، فإن نجاح الأنسنة لا يرتبط فقط بالمشاريع الكبرى، بل بالقرارات اليومية في التخطيط الحضري للأحياء الجديدة، فهناك حاجة ملحة لإعادة النظر في الكثافة الحضرية، ليس عبر زيادتها فقط، بل بتنظيمها وفق نماذج “الكثافة الذكية” التي تُحقق التوازن بين عدد السكان وتوفر الخدمات. كذلك يجب تصميم الشوارع والفراغات العامة بمقياس إنساني، بحيث توفر الرصيف الآمن، الظلال، المقاعد، الإنارة الودية، وعناصر الجذب الاجتماعي. كما أن تفعيل “الاستعمال المختلط” داخل كل حي سكني، من خلال دمج السكن بالتعليم، والصحة، والتسوق، والترفيه، يجعل الحياة اليومية أكثر بساطة، ويقلل من الحاجة للتنقل الطويل.
تبقى المسألة الأهم هي أنسنة التخطيط ذاته، أي أن تُبنى السياسات الحضرية بالتشاور مع السكان، وأن يتم إشراكهم في صنع القرار، بما يعزز من إحساسهم بالانتماء ويُشجعهم على المشاركة الفعالة في حماية وتطوير بيئتهم الحضرية.
ختاماً، فإن موازنة الأنسنة والنمو العمراني السريع ليست معادلة مستحيلة، لكنها تتطلب إدارة حضرية، ورؤية تخطيطية شاملة، وأدوات تنفيذية مرنة. وتجربة الرياض – رغم التحديات – تُعد خطوة واعدة نحو بناء مدينة مستقبلية تُجسد المعادلة الصعبة: مدينة تنمو بسرعة، لكنها لا تفقد إنسانيتها.