من الضرورة التاريخية إلى المشاريع العصرية: رؤية لمبادرات أنسنة المدن السعودية
بقلم م. هند بنت طارق العيسى – معمارية ومصممة من أجل الابتكار الاجتماعي
في البناء التقليدي لبيوت المحرّق، كان عرض الدهليز يتحدد بأطوال الأخشاب التي تُقصّ لاستيعابها في قوارب التجارة القادمة من الهند. كان هذا القياس نتاج ضرورات النقل، وتحول مع الزمن إلى قاعدة تصميمية غير مكتوبة. هذه القصة تذكّرنا بأن الأكواد العمرانية تتشكل بفعل احتكاك الإنسان مع موارده وبيئته. ومع تحوّل مدننا إلى فضاءات تستجيب لحركة السيارات وناطحات السحاب، يبرز سؤال جوهري: هل ما زلنا نحتكم لمنطق الأمس؟ أم أن الوقت حان لإعادة صياغة سياسات تضع الإنسان واحتياجاته المعاصرة في مركز التصميم؟
رُسمت المدن السعودية، خلال الطفرة العمرانية في السبعينيات والثمانينيات، على مقاس السيارة، فتم شقّ الطرق العريضة وارتفعت الأبراج، بينما اعتُبر النسيج التقليدي عائقاً للتنمية. أدّى هذا التوجه إلى قطيعة بين الإنسان وفضائه؛ اختفت الأزقة والساحات، وفُقدت هوية المكان. ومع الثورة الصناعية والمعلوماتية، ازداد الاعتماد على التقنيات على حساب الروابط الاجتماعية، فأصبحت المدن آلة إنتاج لا مكانًا للتلاقي. من هذا المنطلق، بات من الضروري تطوير سياسات عمرانية تعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية وجودة أسلوب الحياة.
ترينا قصة الأخشاب أن التصميم ينبع من الموارد والحياة اليومية. أما في الفكر المعاصر، فيدعو المصمم دانيل كريستيان وال إلى تجاوز الاستدامة نحو التجدد؛ أي بناء ثقافات تنمو من الداخل عبر احترام قيم المجتمع والبيئة. هذا المنهج يحوّل التصميم إلى سياسة تؤثر على الصحة والنسيج الاجتماعي.
على الصعيد الوطني، لا يمكن الحديث عن أنسنة المدن دون الإشارة إلى التجربة الرائدة لأمانة منطقة الرياض بقيادة سمو الأمير الدكتور عبد العزيز بن محمد بن عيّاف، التي شكّلت نقطة تحوّل نوعية في التفكير البلدي. انطلقت مبادرة الأنسنة بدعم مباشر من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حين كان أميراً للرياض، لترسي رؤية جديدة قوامها تعزيز البعد الإنساني في البيئة الحضرية، وتحويل المدينة من مكانٍ صامت إلى فضاء تفاعلي يصوغ فيه الإنسان مسيرته وهويته.
ولم تلبث التجربة أن أصبحت نموذجًا يُحتذى به في مختلف مدن المملكة؛ فبرامج مثل الساحات البلدية، واحتفالات الأعياد، وتحسين المشهد الحضري، أصبحت تُدرج ضمن ميزانيات البلديات، ونالت الدعم على المستوى الوطني. وقد حُظِيَت هذه الجهود بتقدير محلي ودولي، وكان لها الأثر في وضع الأنسنة على أجندة السياسات العمرانية، تمهيدًا لما تضمنته رؤية السعودية ٢٠٣٠ من التزام صريح بتحسين جودة الحياة في المدن.
اليوم، لا تزال هذه التجربة مصدر إلهام، ليس فقط كممارسة عمرانية، بل كفكر مستمر يؤمن أن المدينة الحيّة تُبنى حين يصبح الإنسان في قلب كل قرار وتصميم.
البعد المحلي – مشاريع تجسد الرؤية
من المبادرات الملموسة في المملكة العربية السعودية، تبرز ثلاثة أمثلة:
· المسار الرياضي: مشروع يمتد لأكثر من ١٣٥ كم من وادي حنيفة إلى وادي السلي، يضم مسارات للمشي والدراجات والخيول ومرافق رياضية وثقافية، ويصنف كأكبر متنزه طولي في العالم. هذا المسار يحوّل البنية التحتية إلى منصة اجتماعية، ويثبت أن الرياضة مع الترفيه يمكن أن تكون رافعة لتحسين جودة الحياة.
· مجتمعات روشن: شركة عقارية تأسست ضمن مشاريع رؤية ٢٠٣٠ لتطوير مجتمعات سكنية متكاملة. مشروعها الأول "سدرة" يمتد على ٢٠ مليون م٢ ويضم نحو ٣٠ ألف وحدة سكنية، وتعمل على مشاريع أخرى لتطوير أكثر من ٢٠٠ مليون م² و٤٠٠ ألف وحدة بحلول ٢٠٣٠. هذه المجتمعات ليست مجرد إسكان، بل فضاءات متكاملة تتضمن مرافق تعليمية وصحية وتجارية، وتستدعي الهوية المحلية في تصميمها.
· برنامج جودة الحياة: يهدف منذ ٢٠١٨م إلى إثراء حياة الفرد عبر الأنشطة الثقافية والرياضية والسياحية، ويسعى لتحسين المشهد الحضري. يتقاطع البرنامج مع مشاريع مثل المسار الرياضي، ويعزز مبادرات إزالة التشوهات البصرية وتحسين التجربة الحضرية.
هذه الأمثلة تؤكد أن الأنسنة ليست شعارًا، بل عمل مستمر يعيد صياغة المدينة كمكان تلتقي فيه الناس وتزدهر فيه الثقافة.
فضلاً عن هذه المشاريع الكبرى، هناك عشرات المبادرات الصغيرة التي تكمّل الصورة: مثل تحويل الممرات الداخلية في الأحياء القديمة إلى ساحات للفعاليات؛ وتأهيل الأودية والحدائق لتكون متنفسًا طبيعيًا، وربطها بمسارات الدراجات في أنحاء المدينة. تُضيف هذه المبادرات بعدًا اجتماعيًا وبيئيًا على المشاريع الكبرى، وتُظهر أن كل مستوى من التخطيط – من الشارع إلى الحي إلى المدينة – يمكن أن يسهم في تحقيق الأنسنة.
على عتبة مستقبل إنساني
حكاية الأخشاب التي قُصّت لتناسب القوارب تذكّرنا بأن التصميم نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته. واليوم تعيد المملكة اكتشاف هذه الحكمة عبر سياسات ومشاريع تضع الإنسان في قلب التخطيط. إننا نقف على عتبة عالم جديد يمكن فيه للمدن أن تتحول إلى فضاءات للتمكين والازدهار.
فالأنسنة ليست رفاهية، بل شرط لبناء مجتمع متماسك. عندما تصبح الشوارع ساحات لقاء، والحدائق ملاذا للعب والتأمل، والخدمات تجارب تحترم الكرامة، يصبح السكان شركاء في صياغة حياة مدينتهم. ومع كل مسار رياضي يُفتتح، وكل مجلس تصميم يُعقد، وكل مشروع سكني متكامل يُبنى، نُقرّب مدينة لا تكتفي بأن تكون مكانًا صالحًا للعيش، بل حاضنة الأحلام والطموحات. هذه الرحلة تبدأ بخطوة، ويمكن لكل معماري ومخطط وصانع سياسة أن يكون جزءًا من هذه الحركة؛ فكل مبادرة، مهما بدت صغيرة، تشكل حجرًا في بناء مدينة أكثر إنسانية وابتكارًا.