Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
Skip to main content

من قطيعة الحداثة إلى وصال الأنسنة

بقلم د. عبدالله ضيف الله - متخصص عمراني

في رحاب العلوم المعرفية, هناك ما يسمى بالأفكار الفارقة (disruptive ideas) وهي الأفكار التي لا تكتفي فقط بإضافة معرفة جديدة، بل تُحدث قطيعة مع المسلمات السائدة وتعيد تشكيل مسار العلم بأكمله لترسم له منعطفاً جديداً. هذه الأفكار عادةً ما يقف خلفها شخص يتمتع بقدرات تحليلية استثنائية يرى فيها ما لا يرى العوام وكما قالت العرب قديماً "لكل نازلةٍ أهلُ نظر". ولم يكن العمرانُ بمنأى عن هذه الأفكار ففي ثمانينيات القرن الماضي برز المعماري الشهير أندريس دواني بفكرة "العمران الجديد" (New Urbanism) والتي خلقت اتجاه مختلف عن المعتاد في الممارسة آنذاك. ينسحب الأمر ذاته على جهود برايان مكلوغين في إعادة تعريف التخطيط الإقليمي، وإسهامات دونالد شوب التي قلبت المفاهيم التقليدية لأنظمة مواقف السيارات.

في سياقنا العربي, فكرة "الانسنة" في العمران تعتبر أحد هذه الأفكار التي خلقت توجهاً جديداً في وقتٍ كانت فيه الممارسات التخطيطية تتبنى رؤى مختلفة. ويُعد صاحب السمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف، الشخصية المحورية التي قادت هذا التوجه الفكري والتطبيقي في المملكة العربية السعودية. وحتى تدرك عزيزي القاريء أهمية هذه الفكرة وقوتها في التحول الذي أحدثته, لا بد أن نعود بالذاكرة إلى المشهد العمراني في المملكة خلال السبعينيات والثمانينيات الميلادية. كانت المملكة آنذاك تشهد طفرةً حضرية هائلة، ووتيرة نموٍ لم يسبق لها مثيل في العالم. ولأجل استيعاب هذا التسارع، استعانت المملكة بأبرز الخبرات العالمية في تخطيط المدن، التي طبقت أحدث ما توصلت إليه الممارسات الدولية.

اعتمدت تلك الممارسات بشكل أساسي على السيارة كوسيلة نقل رئيسية، بوصفها رمزًا للتقدم والرفاهية. وبناءً على ذلك، تم تصميم الشوارع لتكون عريضة ومستقيمة، بهدف تسهيل حركة المركبات السريعة، فضلًا عن زيادة الارتفاعات والأحجام في المباني بشكل عام. وكنتيجة مباشرة لهذه السياسات، حدثت مع بداية التسعينيات قطيعة واضحة بين النسيج العمراني التاريخي للمدن السعودية، والذي اصطُلح على تسميته بـ"النسيج التقليدي"، والنسيج الحديث الذي نشأ بعد الطفرة العمرانية. في سياق العاصمة, هذه القطيعة لم تكن قدرًا محتومًا. فمع تولي سمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن عياف منصب أمين المنطقة عام 1997م انطلقت عملية إعادة ترميم هذه الثنائية عبر تطبيق مفهوم "الأنسنة". 

تتمحور فلسفة "الأنسنة" في جوهرها حول إعادة الاعتبار للإنسان وجعله مقياس العمران، وذلك عبر العودة إلى القيم الأصيلة التي شكلت النسيج الحضري التقليدي. وتقوم هذه الرؤية على مرتكزاتٍ أساسية، يأتي في مقدمتها: تأسيس بنية تحتية للمشاة تقلل من الاعتماد على المركبة في قضاء الحاجات اليومية، وتحقيق التناغم بين البيئة المبنية والمحيط الطبيعي للمدينة، بالإضافة إلى ترسيخ الهوية الثقافية والوطنية في الطابع المعماري. ولقد تجسدت هذه المناهج في الممارسة العملية التي قادها سمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن عياف خلال توليه أمانة منطقة الرياض (1997م – 2012م)، وهي المسيرة التي حظيت بالرعاية الحكيمة والدعم الاستراتيجي من أمير منطقة الرياض آنذاك، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.


هذه الخمسة عشر عاماً أنتجت ممارسة عمرانية ناضجة ومتشبعة بالخبرة، ممارسة تستحق من الجيل العمراني العربي عموماً والسعودي خصوصاً أن يغوص في أعماقها ويتشرب دروسها. فالانسنة كما جسدها مؤسسها الذي طرز تفاصيلها وأطر لمعالمها، تمثل مرجعاً مهماً للأجيال القادمة من المهتمين بالعمران. والجميل ان البروفيسور القدير ياسر الششتاوي وثقها بشكل معمق في كتابه "الرياض: تحول مدينة صحراوية" ناهيك عن أن سموه في اخر انتاجاته المعرفية قد وثقها من الناحية الإدارية في كتابه "تعزيز البعد الإنساني في العمل البلدي: الرياض أنموذجاً". وبذلك تحولت "الأنسنة" من مجرد مشروع عمراني مادي يخص العاصمة الرياض إلى مساهمة فكرية ومنهجية، تطرح نفسها للتداول المعرفي على المستويين المحلي والعالمي.

Last updated on : July 15, 2025 11:56pm